عندما دخل أوكتافيوس مصر ، كانت توجد ثلاث مدُن إغريقية في مصر ، وهي نقراطيس في الدلتا ، ثم مدينة الإسكندرية ، أما المدينة الثالثة فهي بطلمية ، التي تقع في صعيد مصر ، وفي عام 130 م أضاف الإمبراطور هادريان مدينة رابعة هي أنتينوبوليس ، التي أقامها في مصر الوسطى ، تكريماً لذكرى خليلة الذي غرق في هذه المنطقة خلال موافقته للإمبراطور ، وقد حصلت مدينة أنتينوبوليس على كافة الأمتيازات ، التي كانت تتمتع بها المدن الأخرى ، وحصول مواطنيها على أمتيازات أضافية ، أما الأسكندرية فقد بلغ عدد الرجال الأحرار فيها 300.000 نسمة ، وربما يصل إجمالي عدد سكانها إلى نصف مليون نسمة ، وعلى الرغم من وجود بعض الأختلافات في نظم المدن الأربع إلا أن نظمها كانت في الغالب متقاربة .
وأهم تلك النظم التي تشابهت فيها هذه المدن ، هي تسجيل مواطنيها في قبائل وأحياء ، وهو النظام الذي كان متبعاً في المدن المستقلة في بلاد اليونان ، وكذلك وجود مؤسسة الجمنازيوم التي حرص عليها الإغريق بأعتبارها من رموز المدينة الإغربقية ، وكان مواطنو هذه المدن يقبلون على تولي وظيفة مدير معهد الجمنازيوم ، وهي وظيفة شرفية ، كان شاغلها مسئولاً عن إمداد المعهد بكافة أحتياجاته ، وقد أصبحت هذه الوظيفة فيما بعد إلزامية .
يعد مجلس الشورى أيضاً من معالم المدينة الأغريقية ، وكان حرمان الإسكندرية من هذا المجلس من الأسباب التي جعلت السكندريين يكرهون الحكم الروماني ، أما مدينتا نقراطيس وبطلمية ، فقد تمتعتا بوجود مجلس للشورى فيهما ، وقد حصلت مدينة أنتينوبولس على مجلس الشورى منذ تأسيسها ، وحصلت الإسكندرية على حق التمتع بوجود مجلس الشورى ، في عهد سبتيموس سيفيروس ، الذي منح هذا الحق لكافة عواصم المديريات ، وقد أثار هذا الامر سخط السكندريين ، الذي ساءهم أن يروا مدينتهم العظيمة تتساوى مع سائر المدن الأخرى في مصر .
ومن الناحية الأقتصادية ، تمتع مواطنو المدن الإغريقية ببعض الأمتيازات ، فقد كانوا يشاركون في النشاط الأقتصادي لمدينة الإسكندرية ، كما أعفوا من دفع ضريبة الرأس ، التي كانت تعد بالنسبة لسكان الولايات عبءاً تنوء به كواهلهم ، إضافة إلى كونها دليلاً على تدني المكانة الأجتماعية والسياسية ، وكان مواطنو المدن الإغريقية الأربع يتملكون أراض زراعية في أنجاء متفرقة من مصر ، وكانت بعض هذه الأراضي تقع على مسافات بعيدة من مدنهم ، كما تمتع هؤلاء المواطنون بحق الإعفاء من الخدمات الإلزامية أينما حلوا .
وكان من حق مواطني المدن الإغريقية أن يخدموا في الفرق الرومانية ، وهذا يعني أنهم يصبحوا مواطنين رومان بمجرد تسجيلهم في هذه الفرق ، أما باقي السكان فكان من حقهم الخدمة في الفرق المساعدة فقط ، وهذا لا يعطيهم الحق في الحصول على المواطنة الرومانية ، إلا بعد الخدمة لمدة ربع قرن .
ومما هو جدير بالذكر أن حقوق المواطنة في المدن الإغريقية كانت تقتصر على فئة محدودة ، ولم يكن كل المقيمين في المدينة يتمتعون بحقوق المواطنة ، فقد كان يوجد الكثيرون الذين أجتذبتهم إلى هذه المدن الرغبة في أستثمار أموالهم .
أما اليهود فإن أستقرارهم في مصر يرجع إلى عهود قديمة ، وكانت هناك جالية يهودية في جنوب مصر منذ القرنين الخامس والرابع ق.م ، وقد أنتشر اليهود في سائر أرجاء مصر ، وكان لهم دور ملموس في الحياة الأجتماعية والأقتصادية والثقافية في الأسكندرية ، كما شغل بعض اليهود مراكز إدارية مهمة في الأسكندرية ، مثل إسكندر لوسيماخوس شقيق الكاتب فيلون ، ووالد تيبريوس الإسكندر ، الذي أصبح والياً على مصر فيما بعد ، ويعد فيلون من العلامات الثقافية البارزة في الأسكندرية في القرن الأول ، وكان ضليعاً في الفلسفة اليونانية ، وكتب أبحاثه باللغة اليونانية ، وكان يحاول شرح الديانة اليهودية لغير اليهود .
يذكر فيلون أن عدد اليهود في الأسكندرية يصل إلى المليون ، وهو رقم يدخل في إطار المبالغات الخطابية ، لأن إجمالي سكان المدينة لم يصل إلى نصف هذا العدد ، ولكن يبدو أن عدد اليهود في الأسكندرية تزايد ، فأصبحوا يشغلون أثنين أو أكثر من أحياء المدينة الخمسة ، بعد أن كانوا يسكنون حياً واحداً ، هو الحي الرابع الدلتا ، وكان اغسطس قد كافأ اليهود نظير الخدمات التي قدموها للرومان ، فأقر لهم الأمتيازات التي كانوا يتمتعون بها منذ عصر البطالمة ، والتي تشمل أحتفاظهم بمجلس للشيوخ ، في الوقت الذي حرم فيه السكندريين من أن يكون لهم مجلس للشورى ، لذلك تمادى اليهود وتصرفوا كما لو كانوا من مواطني الإسكندرية وأخذوا يقمحون أنفسهم في مؤسسات الإغريق مثل الجمنازيوم ، مما أستفز السكندريين ، وأدى إلى تفجير روح الكراهية لديهم تجاه اليهود .
بعد الفتن المتوالية التي قام بها اليهود في القرن الأول والثاني ، فإنهم حرموا الكثير من أمتيازاتهم ، وقد ظل يهود مصر على ولائهم للرومان ، حتى بعد تدمير الرومان لهيكل أورشليم ، وعلى الرغم من ذلك فإن معبد اليهود الرئيسي في مصر ، وهو معبد ليونتوبوليس ، قد تعرض للنهب والتدمير ، وأمر فسباسيانوس بإغلاقه نهائياً ، فقد خشيت السلطات الرومانية من أن يتحول هذا المعبد إلى مركز لتجمع اليهود ، بدلاً من هيكل أورشليم ، وقد فرضت السلطات الرومانية على كل يهودي أن يدفع ضريبة سنوية ، يخصص دخلها للإنفاق على معبد جوبيتر كبير الهة الرومان ، وكان اليهود قد دمروا هذا المعبد في أورشليم خلال ثورتهم ، وقد أستمرت جباية هذه الضريبة ، حتى أنتهى الرومان من إعادة بناء معبد جوبيتر في أورشليم .
لم تنته متاعب الرومان مع اليهود بتدمير هيكل أورشليم ، فقد أقام اليهود في عام 115 م بثورة كبرى شملت أنحاء كثيرة من الولايات الشرقية ، وأستمرت حتى أعتلاء الإمبراطور هادريان للعرش في عام 117 م ، وظل الريف المصري يعاني من أثارها لفترة طويلة ، ولكن لأنكسرت شوكة اليهود بعد ذلك ، ولم يعودوا مصدر قلق في المنطقة .