إذا كانت الدولة قد عملت على تشجيع الملكية الفردية في مجال الزراعة ، فإنها نهجت ذات النهج في مجال الصناعة والتجارة ، فلم يتبع الرومان سياسة الأحتكار التي مارسها البطالمة ، بل تركوا أمر الصناعة في أيدي الأفراد ، ولكنهم حرصوا على إبقاء الصناعات الأساسية خاضعة لسيطرة الدولة ، مثل الإشراف على المناجم والمحاجر ، كما تدخلت الدولة بشكل جزئي في بعض الصناعات ، مثل صناعة النسيج والبردي والجعة والطوب .
الصناعة والتجارة شهدتا إزدهاراً كبيراً في بدايات العصر الروماني ، ويرجع ذلك إلى النشاط الذي شهدته التجارة الشرقية ، وهو النشاط الذي لعبت فيه الأسكندرية دوراً مهماً ، فقد أستطاعت هذه المدينة بفضل موقعها المتوسط في قلب الأمبراطورية الرومانية ، أن تحتل مكانة عظيمة في أقتصاديات العالم القديم .
كانت الأسكندرية مركزاً مهماً لصناعة الزجاج والبردي والنسيج ، وتعد صناعة الزجاج من الصناعات العريقة في مصر ، ويرجع تاريخها إلى عصر الفراعنة ، حيث توفرت في رمال مصر المادة اللازمة لإنتاج أنواع متميزة من الزجاج ، وكانت الإسكندرية تقوم بتصدير الزجاج إلى سائر أرجاء البحر المتوسط ، أما صناعة أوراق البردي فهي صناعة مصرية خالصة ، أنفردت بها مصر دون سائر بلدان العالم القديم ، لأن نبات البردي كان ينمو في مستنقعات الدلتا المصرية فقط ، وكانت أوراق البردي يتم صناعتها من سيقان هذا النبات ، ومن المرجح أن تجارة البردي كانت حرة تماماً ، ولكن الدولة فرضت ضرائب نقدية ونوعية على صناعة البردي .
ثم تأتي بعد ذلك صناعة النسيج ، التي كانت تحظى بأنتشار واسع في مصر ، وقامت هذه الصناعة على الأنتاج المنزلي ، إلى جانب المصانع التي كانت تقوم بإنتاج أنواع راقية من النسيج ، وقد أشتهرت الإسكندرية بإنتاج نوع متميز من التيل المزخرف ، وكان المصريين لديهم طريقة سرية لتلوين وصباغة الملابس ، وكانت المنسوجات المصرية تلقى رواجاً في الأسواق الشرقية ، بالأضافة إلى بلدان البحر المتوسط ، ويبدو أن الدولة كانت تشرف على هذه الصناعة ، وكانت لديها مصانع للنسيج ، وقد فرضت الدولة على النساجين وعلى المصانع دفع ضرائب نقدية ونوعية .
وإلى جانب الصناعات الأساسية عرفت مصر صناعات أخرى ، مثل صناعة العطور والمستحضرات الطبية ، وكذلك الأدوات الموسيقية والخمور والفخار .
أما فيما يتعلق بالتجارة ، فإنه على الرغم من تدهور مكانة الإسكندرية من الناحية السياسية ، فإن دورها في مجال التجارة أصبح عظيماً ، وكان ذلك نتيجة حتمية لحالة الأزدهار التي عمت الإمبراطورية الرومانية ، بعد أن عم السلام وخلا البحر من القراصنة ، وأصبحت السفن تبحر في أمان ، وتقاطر التجار على الأسكندرية من جميع أرجاء المعمورة ، من الإغريق والإيطاليين والسوريين ومن أسيا الصغرى ، وكذلك الأثيوبيين والعرب والفرس ، وسيطر التجار السكندريون على تجارة البحر الأحمر والشرق ، وبعد أكتشاف الرياح الشرقية الموسمية على يد هيبالوس في القرن الأول ق.م أزادت التجارة بشكل واضح ، وقبل عصر أغسطس لم تكن تبحر إلى المياة الشرقية أكثر من عشرين سفينة ، ولكن بعد ذلك أزدادت التجارة حتى أن الأساطيل الكبرى أصبحت قادرة على جلب التجارة من الهند وأقاصى أثيوبيا .
ولكن تأثرت الصناعه والتجارة بالأحوال السياسية التي شهدتها مصر والأمبراطورية الرومانية ، وتدهورت الصناعة في القرن الثالث .
وإذا كانت النُظُم الأقتصادية للرومان قد أتت أكلها في البداية وشهدت مصر حالة من الأزدهار في كافة القطاعات الأقتصادية ، فإنها ما لبثت أن أنهارت ، ولم تصمد أمام الرياح العاتية التي تمثلت في الأضطرابات التي شهدتها مصر في كثير من الأحيان ، بالأضافة إلى الأحوال المضطربة التي سادت الإمبراطورية في أحوال كثيرة ، وربما يرجع ذلك إلى أن النظم الأقتصادية والمالية في مصر ، أستندت إلى اسس فاسدة ، قامت على أعتصار هذه الولاية ، والحصول على أكبر دخل ممكن منها ، دون أن تضع في أعتبارها في غالبية الأحيان الظروف التي تمر بها البلاد ، وتظهر الأبحاث التي أجراها الباحثون إلى أي مدى كانت الأدارة الرومانية ظالمة في مصر .