ثورة القاهرة الأولي 1798م
لم تنخدع الجماهير بتظاهر نابليون بالتقوي و تقربه للمسلمين بمنشوراته الهزلية، و لم ير شعب مصر في حملة الفرنسيس إلا جيش محتل لا يختلف عن الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع التي ضربت شواطئ دمياط منذ أكثر من خمسة قرون.
و قد كانوا علي حق في ذلك، فقد كتب بونابرت في مذاكراته في منفاه في سانت هيلانة أن هذه المنشورات كانت “قطعة من الدخل”
و إذا كان نونابرت قد أراد بهذه المنشورات أن يتخفي في ثياب جيش التحرير القادم ليحرر مصر من فساد المماليك، فإن التاريخ القديم للحملات الصليبية علي الشرق كان حاضراً في ذهنه يأخذ منه العبر و يتجنب أخطاءه، فهو يقول : ” إن لويس التاسع (قائد الحملة الصليبية السابعة علي مصر) أنفق ثمانية أشهر في الصلاة، و كان أجدي أن ينفقها في الزحف و القتال و احتلال البلاد”.
و لكن فات علي المماليك و المصريين أن فرنسيي الحملة الصليبية السابعة ليسوا هم فرنسيي الحملة البونابرتية، فالفرق بينهما تقدم صناعي و إداري و علمي كبير علي الجانب الفرنسي يقابله غفلة تاريخية علي الجانب المصري المملوكي.
عندما سمع المصريون بهزيمة الفرنسيين أمام أسوار عكا و قدوم أسطول العثمانيين إلي أبي قير، استجمعوا قوتهم و ثاروا علي المحتل يوم 22 أكتوبر 1798، أي بعد حوالي 4 أشهر من قدوم الاحتلال، و يمكن تلخيص أسباب خروجهم في الآتي:
قتل الفرنسيس للسيد محمد كريم حاكم الاسكندرية لاتهامه بالعمل ضد الوجود الفرنسي في مصر
فرض الفرنسيين ضرائب علي الشعب و تدقيقهم في إحصاء الممتلكات الشخصية
هدم نابليون لابواب الحارات
انهزام الفرنسيين في موقعة النيل أمام الاسطول الإنجليزي و سماع المصريين بأن الباب العالي أرسل جيشاً لفتح مصر
خرج المصريون بكل ما لديهم من سلاح و شوم و حراب علي الجنود الفرنسيين يقتلوهم. و تحصنوا بأسوار الحارات و في الأزقة، و نصبوا المتاريس علي مداخلها. و لكن فاتهم أن يحتلوا الأماكن المرتفعة المطلة علي الحارات. فسارع نابليون باحتلالها و نصب مدافعه فوق مآذن جامع السلطان حسن، و انهالت القنابل منه ومن القلعة علي جامع الأزهر، مبعث الثورة، و كل ما يحيطه من بيوت و حوانيت.
استمر الضرب حتي المساء حتي تدخل اعضاء الديوان الذي شكله نابليون من المشايخ المتعاونين مع الفرنسيين ” فركب المشايخ إلي كبير الفرنسيس ليرفع عنهم هذا النازل، و يمنع عسكره من الرمي المتراسل و يكفهم ما انكف المسلمون عن القتال”. فقبل نابليون وقف الضرب، و لكنه أرسل جنوده إلي الأزهر، فدخلوا الجامع يخيولهم عنوة و ربطوها بصحنه و كسروا القناديل و حطموا خزائن الكتب و نهبوا ما وجدوه من متاع. و لم يخرجوا منه إلا بعد أن ركب الشيخ محمد الجوهري إلي نابليون و طلب منه متوسلاً أن يخرج جنوده من الجامع الأزهر. فقبل نابليون.
و لكن هذا المشهد البربري هو أعمق مشهد في الحملة الفرنسية طوال فترة وجودها في مصر ، مشهد غاص في أعماق الذاكرة المصرية حتي اليوم و صبغ رؤية المصري للاحتلال الفرنسي و الأوروبي بصفة عامة.
حكم علي ثلاثة عشر شيخاً من الأزهر بالاعدام، و أُعدم الكثير ممن قبض عليهم و معهم سلاح و قدر عددهم بحوالي ثمانين شخصاً من قادة الثورة، إلي جانب الكثيرين من عامة الشعب. كتب نابليون في مراسلاته لرينييه يقول ” في كل ليلة نقطع نحو ثلاثين رأساً أكثرها لزعماء الثورة، و في اعتقادي أن هذا سيعلمهم درساً نافعاً”
وعي المصريون الدرس و عرفوا أن الاحتلال هو الاحتلال مهما تلون بألوان مبهجة من تقدم علمي أو إداري أو تنظيمي، فالتقدم إن لم يأت بأيدي و عقول أهل البلد، فسوف يأتي تفضلاً من السيد المحتل إلي العبيد أو يأتي مشروطاً بخلع عباءة الهوية المصرية.
ثورات الأقاليم
تلقت أقاليم مصر جيش نابليون المتوغل في الدلتا و الصعيد بمقاومة شرسة لا تلين، اضطر الفرنسيون معها للحرب و القتال من قرية إلي قرية ليخضعوا أقاليم مصر، و استخدموا القتل و النهب و السلب و التحريق و التنكيل لكسر روح المقاومة، فنجحوا حيناً و فشلوا أحياناً .
ففي المنصورة، ما إن رحل الجيش الفرنسي عنها بعد أن ترك فيها حامية من 120 جندياً، حتي بدأ أهالي المنصورة ينصبون الكمائن لجنود الحامية، فبدأوا بقنص ثلاثة منهم ، ثم حاصروهم في ثكنتهم التي تحصنوا بها، حتي نفدت ذخيرة الفرنسيين، فخرجوا من المدينة تحت وابل من الرصاص يأتيهم من كل مكان و يحصد أرواحهم، و ألقي بعضهم بنفسه في النيل هرباً من الطلق. و لو ينج من الحامية المكونة من 120 فارساً إلا جندي واحد فقط أسره الأهالي ثم أطلقوا سراحه ، و هو الجندي مورستون الذي كتب ما حدث في تقريره إلي كولونيل لوجييه و وردت تفاصيله في تأريخ كريستوفر هيرولد لحملة نابليون علي مصر في كتابه “بونابرت في مصر”
و ساعد أهالي الدلتا علي المقاومة أن كثيراً من قراهم كانت كالقلاع المنيعة لها أسوار و أبواب، مثل قريتي غمرين و تتا شمالي منوف اللتين ثارتا علي المستعمر يوم 13 أغسطس 1798 م و حملوا السلاح و أغلقوا الأبواب في وجه الجنود، فحاول قائد الحامية اقتحام القريتين ففشل، فطل المدد من حامية منوف فأرسل له ممداً ، و بعد قتال دام ساعتين استطاعت الحامية اقتحام القريتين، و استبسلت قرية غمرين حتي بعد الاقتحام و قاتل الأهالي في الطرقات حتي امتلأت بجثثهم، و استشهد منهم من اربعمائة إلي خمسمائة بينهم عدد من النساء.
و ما حدث في غمرين حدث في قري كثيرة في مصر، في كفر شباس عمير و أبي زعبل و مدن طنطا و المحلة و دمياط ، ثم امتد إلي الصعيد حيث واجه الفرنسيون ثورة كبيرة بين جرجا و أسيوط و كذلك سوهاج و طهطا و غيرها.
و كانت ثورات الأهالي تأخذ شكلين أساسيين، و هما إما الهجوم علي الحامية الفرنسية المرابطة في القرية أو المدينة، أو التربص بكتائب الفرنسيين المتوغلة في الأقاليم و المارة بالقري و المدن علي الطريق.
و كانت أسلحة الأهالي لا تتعدي البنادق و المسدسات و الشوم و الحراب. و كانوا يخرجون بالآلاف لمقاتلة الفرنسيين في هذه المواجهات، و ما أن تسمع القري المجاورة بخروجهم حتي ترسل النجدة من الرجال و العتاد لنصرة أخوانهم المجاهدين.
و في كثير من الأحيان كانت الغلبة العسكرية للفرنسيين بفضل تفوقهم العسكري و تنظيم صفوفهم، و كانت وسيلتهم في ردع القري هو إحراقها و نهبها و قتل و أسر مقاتليها.
و تمثلت أبشع صور الردع في ما حدث في قرية بني عدي في أسيوط، فقد خرج أهلها يحملون السلاح ضد الفرنسيين في 18 أبريل 1799م ، و تحصنوا بأسوار القرية يريدون رد القوات الفرنسية عنها، فلقي الفرنسيون مقاومة لم يلقوا مثلها في غيرها من القري، فلجأوا إلي حرق القرية بأكملها و ضربها بالمدافع، حتي أن الجنرال بارتييه رئيس أركان حرب الحملة الفرنسية أورد في مذكراته الآتي” أصبحت بني عدي أكواماً من الخرائب، و تكدست جثث القتلي في شوارعها، و لم تقع مجزرة أشد هولاً مما حل ببني عدي ” و قدر عدد القتلي من جانب الأهالي بحوالي ألفي قتيل.
من أجل ذلك، أتخذت محافظة أسيوط يوم الثامن عشر من أبريل عيداً قومياً لها تكريماً لشهداء بني عدي و تشريفاً لمقاومة أسيوط للاحتلال الفرنسي عام 1799م.
و اتفق كثير من المؤرخين علي أن صعيد مصر ظل مستقل نسبياً، و لم يستطع الفرنسيون إخضاعه كاملاً حتي رحلوا عن مصر 1801م.