مثل الحضارة الرومانية المرحلة الأخيرة من مراحل تطور الحضارات القديمة لكي تبدأ بعدها حضارات العصر الوسيط ، بمعنى أنها تمثل بحق مرحلة أنتقال أستغرقت عدة قرون بسطت روما خلالها نفوذها على معظم العالم القديم المعروف آنذاك ، لكي تؤثر فيه تارة وتتأثر به تارة أخرى ، مرتكزة أحياناً على مقوماتها الذاتية ، ومستندة أحياناً أخرى على التراث الحضاري لمن سبقتها وخاصة التراث الإغريقي .
إن الفنون عامة وفن النحت خاصة يعتبر من أهم المجالات التي تعكس بصدق بالغ تفاعلات أي مجتمع بكل ما له وما عليه بعيداً عن التزييف وعن المبالغات التي تهدف إلى إضفاء الهالات على الذات ، أو الانتقاص من إنجازات الآخرين .
أستعراض فن النحت الروماني يشير في بداياته إلى الأصول الأولى البسيطة للمجتمع الروماني ، مجتمع مدينة أحاط بها أعداؤها من كل جانب مما ألزمها ـ حباً في بقائها ـ أستخدام قدراتها الذاتية لتحقيق أمنها ليس فقط بوسائل الدفاع عن النفس ، ولكن بوسائل الهجوم التي مكنتها خلال خمسة قرون من الحكم الجماعي (العصر الجمهوري) ليس فقط من الدفاع عن نفسها ، ولكن أيضاً بتكوين إمبراطورية مترامية الأطراف ضمت شعوبًا شرقية وأخرى غربية ، هذه الأنتصارات التي حولت روما من مجرد مدينة إلى إمبراطورية واسعة وجهت الفنون الرومانية منذ البداية إلى التمسك بأصولها الأولى الإيطالية ، وهي أصول حملت معها مفاهيم خاصة أنعكست في مجال فن النحت مثل الطابع العملي في تنفيذ عناصر هذا الفن بأستخدام خداع النظر، مثل الأهتمام بتصوير الشخصيات التاريخية الرومانية ، والحرص في تسجيل الأحداث التاريخية ، والدعاية السياسية لقدرة روما الإنمائية لمختلف الشعوب ، والميل لأستخدام القيم القياسية لإبراز الملامح الخاصة ، كل تلك العناصر التي تبلورت في مجال النحت الروماني خلال العصر الجمهوري عكست مشاعر رومانية تمجد الأصول الرومانية التي حققت كل هذه الانتصارات .
سيطرة الرومان على شعوب أرقى منها حضارياً وخاصة الإغريق حتمت عليهم التقارب مع الفن الإغريقي الذي غزا مدينتهم عن طريق غنائم الحروب وسلب المدن الإغريقية ، فتكدست مدينة روما بروائع الفن الإغريقي مما أثر على الذوق الروماني ، فلم تعد فنونهم السابقة ترضى جميع أذواقهم ، حيث أنعكس ذلك بظهور مجموعة من الأعمال النحتية تجاور فيها التراث الروماني مع التراث الإغريقي في نفس العمل الفني هذا التجاور بين الأساليب الفنية الرومانية والأخرى الإغريقية أستمر طوال القرن الأول الميلادي ، غير أن تلك الثنائية أختفت في أواخر هذا القرن وبالتحديد بدءاً من عصر تراجان لكي تحل محلها لغة فنية جديدة أندمج فيها التراثان في تمازج رائع ، فلم يعد بالمستطاع التفريق بين ما هو يوناني وبين ما هو روماني ، هذه اللغة الفنية الجديدة التي تمثل أزهى عصور فن النحت الروماني أستمرت طوال القرن الثاني الميلادي .
خلال القرن الثالث الميلادي وما بعده شهدت الإمبراطورية الرومانية أخطاراً عسكرية متعددة على كافة حدودها ، في نفس الوقت التي زالت فيه الأمتيازات الخاصة بالرومان وبعاصمتهم روما لكي يصل إلى العرش أباطرة شرقيين ، كما لازم هذا العصر أيضاً أزمات أقتصادية وأجتماعية أنعكست جميعها على فن النحت فلم تعد تظر تلك القوة التي عكستها الأمثلة النحتية من فنون القرنين الأول والثاني ، بل رجوع مرة أخرى للأصول الرومانية الإيطالية وإن كانت بلغة جديدة مختلفة عن فن النحت في العصر الجمهوري ، إلا أنها كفيلة بإثبات مدى التردي الذي وقعت فيه هذه الإمبراطورية .
بأختفاء مظهر القوة الذي لازم فن النحت الروماني في عصوره المزدهرة ، تحددت الخطوط الجديدة التي ستصبح لغة الفن في العصور الوسطى لما يزيد عن عشرة قرون ، لا يجب تقييم الفن الروماني المتأخر على أنه فن متدهور، ولكن يجب النظر إليه على أنه لغة فنية جديدة عكست الظروف القاسية التي حاقت بالإمبراطورية قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد انتقال العاصمة إلى الشرق وبعد احتلال روما ذاتها من العناصر المتبربرة .
لقد عكس الفن الروماني خلال العصر الجمهوري مرحلة طفولته حيث تمسك الرومان بكل ما هو روماني ، ثم مرحلة الشباب والقوة التي مثلتها مراحل فن النحت الروماني خلال القرنين الأول والثاني الميلاديين ، ثم مرحلة الكهولة التي تمثلت برجوعها إلى أصولها الأولى أي مرحلة الطفولة مرة أخرى ، وما أشبه الحضارة بالمراحل العمرية للإنسان صانع هذه الحضارة .