لقد شقى المصريين ، إذ أنهم لم يكونوا خاضعين لملوك غرباء فحسب بل كذلك لجنس غريب بأسره تغلغل في جميع نواحي حياة البلاد ، فلم تنج طبقة واحدة من المصريين من استبداد البطالمة واستغلال الإغريق .
فلا عجب إذن أن نبضت قلوب المصريين بكراهية الأجانب ، وإن أنفجر مرجل غضبهم في وجه مغتصبي بلادهم ، فقد تضافر في إشعال لهيب الثورات المصرية عاملان لهما أقوى الأثر في حياة الناس في كل زمان ومكان ، وهما العامل القومي والعامل الاقتصادي .
ويريد بعض المؤرخين إلقاء كل تبعة هذه الثورات على بطلميوس الثاني ، لأنه حتى إذا كان بطلميوس الأول يشارك أبنه آراءه التي أكسبت مصر طابعها في عهد البطالمة ، فإن الظروف المحيطة به لم تمكنه من تنفيذها ، إذ يحتمل أن يكون الإسكندر الأكبر قضى على الاحتكارات القديمة وأنه لم يعد إنشاءها إلا بطلميوس الثاني ، ولأن بطلميوس الثالث لم يفعل إلا أنه أقتفى أثر سياسية أبيه .
وأذا كان يجب أن يتحمل بطلميوس الثاني الجانب الأكبر من تبعة الثورات المصرية ، بسبب شدة عطفه على الإغريق ومعاملتهم معاملة ممتازة ، واختفاء المصريين من المراكز الرفيعة في الحكومة ، وتضييق الخناق على رجال الدين المصريين ، وبسبب ذلك النظام الاقتصادي والمالي الصارم الذي أرهق المصريين ، فلابد من أن يتحمل بطلميوس الأول وسائر البطالمة جانبًا من هذه التبعة ، لأنهم لم يحاولوا إنشاء دولة قومية .
ولأنه يبدو مما ورد ذكره عن بطلميوس الأول أنه وإن كانت الظروف قد فرضت عليه أن يتوخى جانب الاعتدال في معاملة المصريين في بداية حكمه ، إلا أنه مع ذلك قد وضع أساس معاملة المصريين معاملة المقهورين المغلوبين على أمرهم ، ومعاملة الإغريق معاملة السادة ، وقد أقتفى أثر هذه السياسة سائر البطالمة حتى المتأخرين منهم ، الذين وإن كانوا قد حاولوا منذ عهد بطلميوس الرابع كسب ود المصريين ببعض المنح ، فإنهم لم يغيروا هذه السياسة تغييراً جوهرياً .
لقد ضاق المصريون ذرعًا بالنظام الاقتصادي والمالي ، و وقعت اضطرابات بين المزارعين ، كانت تنتهي بإضرابهم عن العمل وفرارهم إلى المعابد للاحتماء بالآلهة ، ولم تقل عن ذلك شأنًا الاضطرابات التي كانت تنشأ بين المشتغلين بالصناعة والتجارة في كنف النظام الجديد ، ولم يفض ذلك إلى الإضراب عن العمل فحسب ، بل كذلك إلى تهريب السلع وبيعها دون تصريح .
وقد أدت أيضًا مختلف أنواع الخدمة الجبرية إلى اضطرابات واضرابات مماثلة ، ولشد ما كانت الحكومة تنزعج من كل هذه القلاقل ، فكانت تقابلها بعقوبات صارمة .
و النظام لم يكن صارماً فحسب ، بل كان تطبيقه في قبضة أجانب اعتبروا أنفسهم أرفع قدراً وأعظم شأناً من المصريين ، ولم يتكلموا اللغة المصرية بل أرغموا على الأقل بعض المصريين على تعلم لغتهم الأجنبية .
وكانوا لا يعبدون آلهة البلاد بل آلهتهم الأجنبية التي أحضروها معهم ، ولا يحيون الحياة التي كان المصريون يألفونها بل حياتهم الخاصة ، وكان يرغمون أهالي البلاد على بذل أقصى الجهد في استغلال المرافق الاقتصادية .
ولم يتحمل المصريون كل ذلك في سبيل آلهتهم أو ملوكهم الوطنيين ، الذين يعتنقون نفس المعتقدات الدينية ويتكلمون نفس اللغة ويحيون نفس الحياة ، وإنما في سبيل صوالح ملك أجنبي ومن يحيط به من الأجانب ، الذين منحهم أفضل المناصب وخير الفرص لإثراء أنفسهم ، فظفر الأجانب بالثروة حين حلت الفاقة بالمصريين .
وإذا احتاج مصري إلى اقتراض نقود أو بذور ، فإنه كان يقترضها عادة من أحد هؤلاء الأجانب ، وإذا أراد استئجار قطعة أرض فإنه كان يستأجرها عادة منهم ، وفضلاً عن كل ذلك فإنه كثيراً ما كان يفرض عليه إيواء هؤلاء الأجانب في مسكنه . فلا عجب إذن أن أدرك المصريون أنهم قد أصبحوا غرباء في بلادهم ، أداة يجب أن تكون طيعة في خدمة الأجانب ، فتملكهم شعور جارف ضد أولئك الدخلاء .
ووسط هذه الظروف كان من اليسير أن يندلع لهيب الثورة لأي سبب ، فقد امتلأت النفوس غضباً وحقداً ، وتوفر جيش الثورة من ملايين الزراع والصناع والعمال الذين لم ينقصهم القادة ، فإن النبلاء المصريين وقد عصف البطالمة بمكانتهم وثروتهم وامتيازاتهم ، وكذلك رجال الدين قود كيلهم البطالمة بالقيود التي كسرت شوكتهم ، كانوا جميعاً يحنون إلى استعادة ما كانوا ينعمون به في الماضي من الكرامة والعزة والنفوذ والثراء .
ولم يؤد مضي الزمن إلا إلى ازدياد الهوة بين الفريقين ، وساعد على ذلك أيضاً صرامة العقاب ، الذي كان يكال للناقمين على سوء الحال ، و كان لا ينقص المصريين إلا الحافز الذي يعيد إليهم ثقتهم بأنفسهم ويزكي روح الوطنية الكامن في صدورهم ، فيخلصوا بلادهم من نير الأجنبي ، كما تخلص أجدادهم من الهكسوس بعد حكم دام مدة لا تقل عن قرن .