يبدو أنه كان لحكم هذا الملك ونشاط كبير وزرائه سوسيبيوس من الأثر في تطور تاريخ مصر أكثر مما توحي به المصادر الأدبية .
ومن المحتمل أنه في خلال الاستعدادات لمحاربة أنطيوخوس الثالث ، وكذلك في خلال الثورة القومية التي أعقبت ذلك ، أدخل فيلوباتور وسوسيبيوس بعض التعديلات على النظم المالية والإدارية لمواجهة تكاليف هذه الأعباء فضلاً عن تكاليف العطايا السخية التي أجزلها فيلوباتور لجيشه وللمعابد بعد رفح ، إذ يلوح أنه قد زيدت بعض الضرائب وإيجارات الأراضي الملكية بوجه خاص ، وأنه قد فرضت ضرائب جديدة ، حتى أن بعض المؤرخين يرون أن بطلميوس الرابع هو الذي أنشأ ضريبة الرأس ، ومن المحتمل أيضًا أن ازدياد نفقات الحكومة وفي الوقت نفسه نقص مواردها ، نتيجة لتدهور مرافق البلاد الاقتصادية منذ أواخر القرن الثالث ، أديا إلى إزدياد التشدد في جمع الإيجارات والضرائب وكافة استحقاقاتها ، وإلى الإكثار من الأعباء والالتزامات غير العادية .
ولابد من أنه قد ترتب على كل ذلك إدخال بعض التعديلات على نظام الإدارة الحكومية ، وبعض التعديلات الهامة في الإدارة الماية ، مثل تقوية العنصر الإداري وتنظيم العلاقات بين الموظفين المسئولين عن جمع الضرائب تنظيماً دقيقاً ، ولما كان ازدياد التشدد في جمع الضرائب ، وفي تنفيذ قواعد المسئولية المادية الملقاة على عاتق الموظفين والملتزمين وضامنيهم ، قد أدى إلى مصادرة الأملاك في كثير من الأحيان ، فلابد من أن تكدس هذه الأملاك المصادرة قد أفضى إلى إنشاء إدارة خاصة لتتولى أمرها .
و من بين الوسائل التي لجأ أليها بطلميوس الرابع لمحاربة أنطيوخوس الثالث إدماج الجنود المصريين لأول مرة في صلب الجيش العام ، بعد أن كانوا لا يؤلفون حتى ذلك الوقت إلا الفرق الإضافية في الجيوش البطلمية ، وقد كان ذلك تغييراً خطيراً في سياسة البطالمة ، لإرضاء الكرامة المصرية ، إذ لا يبعد أن الحكومة كانت تخشى أن يتكرر في خلال هذه الحرب ، وقت أن كان العدو على مقربة من الحدود المصرية ، ما حدث في أثناء اشتباك بطلميوس الثالث في حربه السورية .
ولذلك يبدو أن الحكومة قد استفادت من عبرة الماضي ، وحاولت بإدماج المصريين في صلب الجيش إعطاء هذه الحرب طابعاً قومياً ، لتضمن سلامة مؤخرتها من أن تتهددها ثورة قومية .
لقد نجحت سياسة فيلوباتور في كسب الحرب ، لكنها تمخضت عن نتائج خطيرة بعد ذلك مباشرة ، ذلك أن الجيش ما كاد يعود مظفراً من موقعة رفح حتى اشتعل لهيب الثورة بين المصريين ، لأن الجو كان مشبعاً بالاضطراب أبان حكم فيلوباتور قبل هذه المعركة وبعدها ، ولأن هذا الملك المستهتر الضعيف ، الذي كان واقعاً تحت تأثير بطانة من أهل السوء لا يعرفون الضمير ، قد قضى في بادية حكمه على عمه ليسيماخوس وأخيه الصغير ماجاس وأمه الملكة برينيكي ، وزاد الأعباء المفروضة على المصريين ، فلا عجب إذن أن المصريين ، عندما استشعروا قوتهم بعد انتصارهم في موقعة رفح ولمسوا أدلة ضعف فيلوباتور ، قدهبوا ثائرين على ما كانوا يلقونه من صنوف الظلم والإرهاق .
مما اضطر فيلوباتور إلى ترك حياة اللهو لمحاربة المصريين ، ويظن أن الثورة بدأت في مصر الوسطى والدلتا ، أن المصريين لم يشتركوا جميعًا في الثورة ، وأولئك الثوار كانوا مزارعين واضطروا إلى هجر أراضيهم لارتفاع إيجارها أو لشدة وطأة أعمال السخرة في قريتهم ، أو لعلهم كانوا أيضاً صناعاً أرهقتهم الالتزامات الجائرة أو كثرة العمل المضنية ، فهجروا جميعاً قريتهم إلى الصحراء أو المستنقعات إلى أن جاء الوقت المناسب للهجوم على قريتهم ، ومن الجائز أيضًا أن يكون الثوار قد جاءوا من قرية أخرى أو أي معقل للثورة ، لرفع لوائها في هذه القرية ومهاجمة الموالين للأجانب .
أن بعض رجال الدين لم يساهموا في الثورة وأظهروا ولاءهم للنظام القائم ، فاعتدى الثوار عليهم وعلى معابدهم ، ويعزو بعض المؤرخين ولاء كهنة الوجه البحري إلى المنح التي جاد بها عليهم بطلميوس الرابع ، وهناك رأي أخر يقول أن سبب ولاء كهنة الوجه البحري للبطالمة لم يكن المنح بل عداءهم لكهنة طيبة ، غير أنهم استغلوا موقفهم ليفوزوا بمنح كثيرة من البطالمة .
وقد كانت منطقة طيبة أحد معاقل الثورة الرئيسية ، فإنها بزعامة أرماخيس ثم انخماخيس ، وبمعاونة النوبيين فيما يظن ، اشتبكت في صراع عنيف مع فيلوباتور ثم بعد ذلك مع ابنه ابيفانس .
أن الثورة التي وقعت في عهد بطلميوس الرابع لم تختلف كثيرًا في طبيعتها عن الثورة التي وقعت في عهد بطلميوس الثالث ، والثورات التي وقعت في عهد البطالمة المتأخرين ، لكن ثورة عهد بطلميوس الرابع كانت أخطر من سابقتها ، لأن الجنود المصريين كانوا عندئذ أفضل تدريباً وتسليحاً ورأوا في مديان القتال في أثناء موقعة رفح أنهم لا يقلون كفاية ومقدرة عن الإغريق والمقدونيين ، وعندما عادوا من انتصارهم في موقعة رفح إلى قرأهم وأخذوا يباشرون حياتهم العادية ، ازداد أحساسهم بالألم من مركزهم الوضيع بالنسبة للأجانب ، وحنقوا أكثر مما كانوا يحنقون في الماضي على الأعباء المتزايدة التي كان النظام الاقتصادي والمالي يفرضها عليهم ، فهبوا ثائرين على طغاتهم وكل من لاذ بهم أو انتصر لهم أو تخلف عن موكب الوطنية .
ولا يبعد أن أحد العوامل الهامة ، التي الهبت مشاعر المصريين ـ وخاصة في مصر العليا ـ ودفعتهم إلى الثورة ضد البطالمة ، كان بقاء التقاليد الفرعونية في وادي النيل جنوبي مصر ، لأنه إذا كان الغزاة المقدونيون والإغريق قد أخضعوا مصر نفسها ، فإنهم لم يخضعوا كل دولة الفراعنة القدماء ، أو بعبارة أخرى كل منطقة الحضارة المصرية ، ولا شك في أنه عندما كان المصريون الوطنيون يرون تقاليدهم القديمة تسود ذلك الإقليم الواقع إلى ما وراء الحدود الجنوبية ، كانت صدورهم تتأجج وطنية ، وكانت تبدو لهم بارقة أمل في إحياء ماضيهم المجيد واسترجاع حريتهم العزيزة ، فيدفعهم كل ذلك إلى البذل والفداء .
إن الشلل الذي أصاب سياسة مصر الخارجية على عهد بطلميوس الرابع يفسر عادة بإهمال هذا الملك للشئون العامة وبغرامة بحياة اللهو والمجون ، لكن لعله كان للثورة المصرية نصيب في هذا الشلل ، إذ يبدو بجلاء أنها كانت ثورة خطيرة اقتضت مجهوداً حربياً خطيراً وتمخضت عن نتائج اقتصادية فادحة ، لأنها أنقصت اليد العاملة وعطلت الزراعة والصناعة في مناطق واسعة .
ولا يبعد أيضاً أن تكون الاضطرابات التي عانتها مصر العليا قد أثرت في واردات مصر من الذهب عن طريق الجنوب ، وفي العلاقات التجارية بين مصر وبلاد النوبة وكذلك بين مصر والصومال ، ولذلك يبدو أن حكومة الإسكندرية ، وقد شغلت بالشئون الداخلية ، لم تجد وقتاً ولا مجالاً لمتابعة سياسة نشيطة في بحر أيجة ، ولا للمحافظة على سلامة البحار مثل ما كانت تفعل في الماضي .
وقد ترتب على ذلك أن فقدت مصر مكانتها الممتازة في حياة بحر أيجة التجارية ، وإن نقصت مواردها من تجارة بحر أيجة ، وإزاء سوء حالة البلاد الاقتصادية لجأت الحكومة في عهد بطلميوس الرابع إلى إجراءاين خطيرين ، وهما رفع القيمة الإسمية للعملة ثم إتخاذ البرونز قاعدة أساسية للنقد البطلمي .